الاثنين، 27 مايو 2013

إلى أب رحل مرّتين


أيمن شروف

انتبه خلال عودتك إلى البيت. كلمات أربع هزّتني وأشعرتني بحنو أب افتقدته في طفولتي، لأعود واكتشفه مع نصير بيك الأسعد.

كلماته هذه، قالها في أكثر اللحظات حراجة. في العاشر من أيّار، أي بعد ثلاثة أيّام على غزوة بيروت وتهجيرنا من مبنى جريدة
المستقبل، في بهو أحد فنادق سن الفيل الذي لجأنا أو التجأنا إليه.

منذ ذلك الحين، بدأت أفهم نصير الأسعد. قبل ذلك، كان بالنسبة إليّ معلّماً واستاذاً في مهنة، تعشقها حين تلتقي في بدايات انطلاقتك، بأناس من شاكلة البيك، بلطفه، بدماثته، بأخلاقه، بروحه البيضاء، بضحكته، بكل شيء. كل ما في نصير الأسعد يستدعي الإحترام، يُجبرك عليه.

في ذلك الفندق، وفي تلك اللحظة، تحوّل البيك من مدير تحرير في جريدة أنتمي إليها، إلى أبٍ روحي. نظراته ونبرته في ذلك الحين، لا تُشبه رئيساً أو مديراً. هي تُشبه بكل ما فيها من عطف وحُب، نظرة أب لإبنه، يستعجله الرحيل للأمان، يستودعه للقاء قريب، على متابعة مسيرة، كان يصفها بالمعركة الأخيرة في حياته. انتهت مسيرته قبل أن تنتهي المعركة. هنا تتحوّل الأسئلة والهواجس إلى مدعاة شكٍ في كل شيء من حولنا. حتى في المسلّمات. إن لم نقل أكثر.

لم تُقرع الطبول، لم يسمعها نصير الأسعد قبل أن يرحل. كان ليذهب فرحاً بانتصار انتظره طويلاً. بعد 2 آب عام 2009، وانسحاب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار. تغيّر البيك، أصبح كئيباً إلى حدّ لم يعد هو. كنّا نتحاشى الحديث معه، حتى السلام لم يعد كما كان. ليس للمرء سوى أن يسرق نظرة إلى مكتبه ليطمئنّ إلى حضوره. وجوده أمان لي، ولجميع من في الجريدة.

مضت ثلاثة أشهر أو اكثر، والحال على ما هي. تجرّأت على الدخول إليه، مبتسماً، اعتدت في كلّ مرّة، أن يردد على مسامعي كلماته المفعمة بالحب. لم ينطق بشيء، جلست إلى جانبه فإذ به يهدم جدار بناه لأشهر، ليقول: تعودت إخسر، هيدي هزيمتي الستين. قصد بذلك تموضع وليد جنبلاط. قالها ليس من باب الحديث في السياسة. ما كان يجمعه بالبشر أبعد من ذلك بكثير، كان ينطلق إليهم من إنسانيّته. قال ما يؤلمه عن خسارة رفاق ـــ أحبة انتقلوا إلى ضفة بعيدة.

كان في كلّ مرّة أكتب فيها، يقول: لا أعرف، أحب أن أقرأ ما تكتب، أنت وعبد السلام، أقرؤكم وأصحّح لأن ما تكتبوه جيّد، أريده أن يكون دائماً كذلك. بين كل هذه الأوراق المتناثرة فوق مكتبه، وكل الهموم التي تشغل باله، هموم قضية ووطن وعائلة لم تغب يوماً عن تفكيره، بل حضرت في نضاله لأنّه يريد أن يبني وطناً لوائل ونور وريم وتالا، كان يجد وقتاً لي ولكل من شعر نصير الأسعد أنّه إبن القضية، من فلسطين إلى ساحة الشهداء وصولاً إلى ساحات الحرية في كل الوطن العربي، وفي سوريا على وجه التحديد.

كثيرة هي المحطات التي لا يُمكن اختصارها بكلمات ومقال. بعضها لا يُمكن أن يمرّ عليها المرء مرور الكرام. عندما نزل أصحاب القمصان السود إلى الشارع وأُسقطت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري، تداعينا إلى الأمانة العامة لقوى 14 آذار. رفضنا واستنكرنا. كنّا قليلي الحيلة، لا قرار بالمواجهة. ضائعون حتى في ما سنقوله، البيان الذي تُلي آنذاك، كان أقلّ بكثير من أبسط التوقعات. لم يحتمل نصير الأسعد، هول الإنقلاب الذي كان أكبر بكثير. ثار، أخذ الكلام. قال ما لم يتجرأ كثيرون على البوح به. خرج من الأمّانة العامة. خرجنا وراءه. وقف في منتصف الطريق، هاجم النظام الأمني الجديد، رافضاً عودته.

هذه الحادثة، كغيرها. ترك فيها نصير الأسعد لمسته، لوّنها بعشقه الخاص لهذا الوطن، وبإصراره على المواجهة، حين يعجز الجميع عنها. هو مثال الإنسان الذي لا يعرف سوى النضال، لا صديق له إلّا الثورة، لا نديم لعقله سوى التحرر. هو رائع في زمن ارتحل فيه الرجال. هو نصير الحق، في وطن اعتاد الانقلاب على نفسه، على مواطنيه، على أحراره.  

لحظة الانقلاب، شعر كما شعرنا، الزمان يفلت منّا إلى مكان حاربناه طويلاً. أتى الربيع العربي، ربيع استشرفه نصير الأسعد قبل ولادته. طرق هذا الربيع أبواب سوريا. عاد نصير الأسعد إلى الحياة. عادت الروح إليه، تفتحت براعم الأمل التي منعها من أن تذبل وتنتهي. لكنّه رحل، قبل أن يسقط طاغية دمشق. وكأنّ لحظات الموت لم تعد تحتمل انتظارات نصر، لنصير وكل نصير للحق.

 في كل واحد فينا، ترك نصير الأسعد أثره، ترك سحره، وإرثه، ونضاله. يرحل إلى فوق، ونحن تحت، نمضي وعيوننا إليه، ليحمينا بحكمته، وإيمانه بالوطن والإنسان الذي فينا، إنسان أيقظه نصير الأسعد فينا قبل أن يرحل، قبل أن يذهب إلى قدره وقدرنا. أعطانا الكثير الكثير، أنصفنا جميعاً، وجميعنا لم ننصفه. خفق قلبه لكل الرفاق، ونبضات الرفاق لم تستطع أن تخفق في قلبه.

عزاء نصير الأسعد أننا هنا، نمضي معه حتى في غيابه. نمضي إلى حلمه. حلم سنصحو عليه ولو بعد حين. حلمه بالربيع بدأ في جريدة المستقبل، حيث بيته الكبير، حتى لو لم يعد فيه، قبل رحيله. وعزائي أنني أكتب مرّة جديدة وأخيرة، عن رئيسي ومعلّمي وأبي، في جريدة أحبّها حتى الموت.

الجمعة، 8 مارس 2013

ميريام كلينك السياسة

أيمن شروف ـ المدن 

تجربة المرأة في عالم السياسة اللبنانية، مختلفة عن كل ما حولها في بلدان قريبة أو بعيدة. في لبنان، النساء دائماً ملحقات بالرجال. واقع الحال يشي، أو يؤكد أن لا تجربة سياسية، في شكلها اللبناني التقليدي، للمرأة يُمكن أن يعوّل عليها، أو يُمكن أن تؤسس لحالة جديدة، تخرج من القديم الموروث، لتبني للمستقبل، ما يُشبه وطناً. 

أما في النضال، فكان للمرأة دورها، كما هو الحال في دول الربيع العربي اليوم. لا بل إن مناضلات لبنان، ذهبن أبعد بكثير. في زمن سابق خرجن للقتال بوجه الاحتلال. وفي زمن قريب، خرجن في معارك السيادة والحرية. وفي زمن حالي، يخرجن لحقوقهن في جنسية أطفالهن، في مواطنية مسلوب نصفها، في مُجتمع يقول إنه ديموقراطي، فيما هو يوغل في ذكوريته، أكثر فأكثر. 
 
بالعودة إلى السياسة، لم تُقدم المرأة ذلك النموذج الذي يُمكن أن يصل إلى درجة مقبول، ليس أكثر. غالبية التجارب التي خاضتها، أتت وكأنها من خارج المألوف. نساء كثيرات دخلن عالم السياسة، صدفة. صدفة من قبيل أن أزواجهن عاشوا السياسة بتفاصيلها، رحلوا فجأة، فوجدن أنهنّ أمام وراثة من نوع آخر، أغرتهن التجربة، أو قررن الحفاظ على إرث أزواجهن أو آبائهن. 
 
الأمثلة على هذا الواقع كثيرة، ومُحبطة. جيلبرت زوين ماذا تفعل في مجلس النواب باسم النساء، لولا أنها سليلة عائلة كسروانية عريقة؟ تلك التي دخلت إلى ندوة برلمانية لتتواصل مع زملائها في المجلس باليوغا، ومع الناس بابتسامة تلتقطها عدسات الكاميرات في اجتماع تكتل الرابية، حين تجلس زوين، وترمي نظرات الإعجاب في أحضان زعيم إصلاحي، يضمن لها عودة ميمونة إلى ممارسة اليوغا. 
 
والحال شبيه مع نايلة تويني، نجلة الشهيد جبران تويني. دخلت عالم السياسة وريثة لوالدها، واختفت. هكذا بلمح البصر، لم تحاول حتى الاستفادة من إرث جبران، ولا من إرث جدها، مؤسس جريدة النهار والديبلوماسي والسياسي الذي ترك بصمة في الحياة السياسية اللبنانية قبل أن يرحل عنها، مؤخراً. دخلت نايلة إلى البرلمان، عن دائرة الأشرفية، فخرجت إلى دائرة الحياة الزوجية، غير مُكترثة بمُستقبل كانت لتصنعه، ولها في ذلك أرضية خصبة. أغراها الكرسي، ولم تغرها التجربة. 
 
والأمثلة، على كثرتها، لا تُسقط من الحساب نجاح تجارب، هي أيضاً وليدة واقع سياسي أو عائلي، وليست بأي حال نتيجة لتجربة فردية، أو قناعات شخصية، يسعين إلى تحويلها لمشروع نضال سياسي يُفضي في  نهاية المطاف إلى تأسيس حالة فريدة من حولهن، تكون بديلاً عن السائد المُحبط. وكنّ، في ممارستهن للسياسة، نسخة عن بيوتات السياسة الآتيات من خلف جدرانها. انغمسن دائماً، في تمجيد الموجود، ولم، تحاول، أي منهن، الانتفاض على ما حولها، أو خلق مساحة لسياسة جديدة. 
 
الكارثة اليوم، لا تأتي فقط من هذا القديم الموجود، والطامح للبقاء. الكارثة بالبدائل، أو من يطرحن أنفسهن ليكنّ البديلات. ميريام كلينك، ناتالي فضل الله، لارا كاي. أسماء، أكثر ما فيها إغراؤها. أسماء أجساد، ليس أكثر، يردن أن يوصلن الصوت، صوتهنّ. يحملن مشاريع على قياس رداءة أصواتهن، أو على قياس، استثماراتهن بالأجساد. 
 
هذا الثلاثي المُضحك، لا يُعبر إطلاقاً عن المرأة اللبنانية، ويومها العالمي يُصادف الجمعة. هذا الثلاثي، أكثر ما فيه أنه وليد فشل الطبقة السياسية، بذكورها، وإناثها على قلّتهن. ثلاثي، يُسطح كل شيء، وليس بغريب أن يصل إلى ما يريد. قد نشاهد ميريام كلينك في مجلس النواب، وناتالي فضل الله في الحكومة. من هو موجود اليوم، ليس أفضل. هذا الموجود، هو الدافع الأوّل، لمزيد من الانحطاط، على الصعد كافة. 

الأربعاء، 6 مارس 2013

لا عقلاء بيننا



أيمن شروف
العقلاء. هذا ما تبحث عنه الطبقة السياسية. الأصح، هذا ما تقوله لنا هذه الطبقة في معرض دفاعها عن دورها في تأجيج النار اللبنانية الملتهبة، أينما كان. في كل بيت، في كل شارع وحي، في كل منطقة. بين الفينة والأخرة، حديث عن الفتنة، يخرج من الجميع. والفتنة كما يقولون: شرّاً مُطلقاً، لعن الله من أيقظها. المهم، أن البحث عن العقلاء، يستمرّ، ويستمرّ. 
 
الكلام عن خطر مقبل على لبنان، أخذ في الأيام القليلة الماضية منحى تصاعدياً لم يكن موجوداً في السابق. منه ما هو مُرتبط بحمى الأزمة السورية، ومنه ما هو مرتبط بالشارع اللبناني، الخارج عن كل سيطرة. حتى صارت القوى الأمنية والعسكرية على اختلافها، تشكو همّها علانية، وهذا أمر، في أي بلد طبيعي غير لبنان، لا يمكن أن يمرّ هكذا. عادة الأمن يقمع من يُخلّ به، الأمن لا يُمكن له أن يشتكي حاله المأساوية إلى الناس. فقط في لبنان، هذا العرف، كان وسيبقى، طالما هذا الأمن، مرتبط دائماً بالقرار السياسي. أمّا القرار السياسي فهذا شي آخر وبحث آخر. 
 
المضي في البحث عن العقلاء، ماذا يعني في عرف الإبداع اللبناني؟ شعار، فيه من التضليل، ما في عقولنا من قلّة ثقة بمن يقول بالبحث، ويسعى إليه. حين يصل الإنفجار إلى مرحلته الأخيرة، يرتفع منسوب البحث هذا، وتتحوّل المنابر إلى ما يُشبه مُحرك البحث "Google". كلّ يعتليه، ليستخدمه في رحلة إسقاط أي صلة له في التفجير المُقبل إلينا، بصمت وسرعة. 
 
بؤسنا، يجعل غالبية منّا يُصدّق. فعل الغالبية، يُلصق بالرأي العام المُنقسم أصلاً بين طرفي النزاع اللبناني الداخلي. مهما كانت تلك الفئة الثالثة كبيرة، الفئة التي ترفض الإنقسام، فهي تبقى خارج الحسابات، طالما هي قررت أن تكون غالبية صامتة، لا يسمعها من هم فوق، لأنّها لا تريد أن توصل صوتها. لعلّها سئمت المحاولة، واستسلمت، لأنّها أخيراً أو مؤخراً أو باكراً، اكتشفت أن لا وجود للعقلاء، وكل من يبحث عنهم، هو واحد من الذين إمّا يهربون من واقعهم، أو ممن يُبررون ما هم ذاهبون إليه، برضى وتسليم. 
 
عودة إلى العقلاء، ومن يبحث عنهم. بكلام أوضح، يُمكن القول أن جميعنا يعلم بأن لا وجود لهؤلاء. لا وجود للعقلاء طبعاً، أما من يبحث عنهم، فهم السبب الرئيسي في تغييبهم. من يقول أنّه يبحث عن العقلاء لدى الطائفة السنية، نسي أو تناسى، أنّه ساهم من حيث يدري في تغييب صوت العقل فيها. نسي أنّه لسنوات، جعل منها، هدفاً.

منذ سنوات وإلى اليوم، كان "حزب الله" جزءاً من شعور الإحباط السنّي، ومغذياً له. مشروع الاعتدال الذي حاربه الحزب، انكفأ، ليظهر من يستنهض الشعور المذهبي، بالضبط كما فعل الحزب في قلب الطائفة الشيعية، حين ألغى كل اختلاف فيها، وسيّرها كما يريد، وبالشعارات نفسها التي يطرحها أحمد الأسير ومن هم على شاكلته، مع الطائفة السنية اليوم. 
 
وهذا الواقع، لا ينفي دور المعتدلين لدى السُنّة في عزل أنفسهم. فهُم، حين غابوا، لأسباب تتخطى حرب الآخرين عليهم، أوجدوا لهذا التطرف، أرضية خصبة. "تيار المستقبل"، فشل في الكثير من المرّات في إدارة لعبته السياسية. هو نفسه، قدم لخصمه الخدمات الكثيرة، حين اعتقد أنّ السياسة ردة فعل، وأنّ المجتمع الدولي، لا شاغل له سوى هذه البقعة الصغيرة في شرقنا المترنح دائماً. وهو نفسه، من ترك للمتطرفين أن يملأوا غيابه، وتردد مراراً في الحزم ضدهم، خوفاً أو قصداً للاستخدام. تأخر إلى وقت صار فيه الحزم بالمواقف، مجرّد موقف لحظوي، لا يُقدم ولا يؤخر في واقع الشارع وما آل إليه. 
 
وفي طور البحث عن العقلاء أنفسهم، يأتي مشهد مجلس النواب حين اقترعت غالبية من هم فيه، لمصلحة قانون المذاهب تنتخب ممثليها. مشهد كافٍ، للرد على كل من يبحث، أو يدعي البحث. ولا حاجة للغرق في تفاصيل معنى هذه الرسالة، وما تُقدمه من مشهد سوداوي. 

إدعاء البحث عن العقلاء، ليس سوى هروب من مسؤولية ما نحن ذاهبون إليه. تباعاً، ستلبس الطبقة السياسية "كفوف" العفّة، وتتوجه إلى من قمعتهم وألغتهم، أو ستذهب من جديد للبحث عن عقلاء جدد، وجودهم افتراضي، كافٍ لأن يُعلن باسمهم فشل لغة العقل والتحوّل إلى لغة أخرى. 

الاثنين، 25 فبراير 2013

كان بالإمكان


أيمن شروف 

كلمة واحدة تختصر كل ما قاله سمير جعجع في احتفال إطلاق الانتساب إلى حزبه. جملة صغيرة، بسيطة، حروفها مركبة بعناية، بوضوح. بساطة تخفي واقعا أكبر بكثير. "نحن أولاد ثورة الأرز، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نلغي أنفسنا من الجغرافيا، ونغرّد خارج قضايا المجتمع". 
 
قاسٍ هذا الكلام. يوّرط أكثر. لا يمكن أن يخدم جعجع في معركة خروجه من القانون الأرثوذكسي، إن كان يريد الخروج. وهو، كلام، لا يمكن ربطه بمشروع 14 آذار. هذه القوى، تقول بالدولة. ما هي الجغرافيا هنا. ماذا يعني عدم إمكانية إلغاء النفس من الجغرافيا؟ وهو، أي الكلام، على بساطته، وبساطة من صفّق لبعضه، خطير، وليس كلاماً حكيماً، يخرج من حكيم. 
 
الجغرافيا، كانت بالأمس، بالنسبة للرجل واضحة. في أحد خطاباته، خرج على الجمع ليقول، نحو المواجهة، السلمية، البحر من أمامنا والعدو من ورائنا. كان عدوّه معروف. اليوم، أين هو العدو؟ حسابات الجغرافيا تعني الدخول في تفصيل المجتمع وتقسيمه، ليس أكثر. القيادة، تأخذ المجتمع إليها، لا تذهب هي إليه. القيادة، كما نعرف نحن، من نرضى لأنفسنا بقعة تُشبه وطناً، لا يمكن لها أن تذهب إلى رأي عام، مرّة جديدة، يوكل إليه فعل الانغلاق، وباسمه تُعاد البلاد إلى زمن مضى.
 
لم يضع أحد سمير جعجع في موقع الدفاع عن النفس، وهو الذي كان في حقبة مضت، من يدافع عن الجميع، عن حلفائه تحديداً. ليس من أحد، لا من حلفائه ولا من خصومه. هو ذهب إلى الموقع بقدميه. مع الأسف. كان بالإمكان، أفضل مما كان. كان بالإمكان، الاستغناء عن حشر فؤاد السنيورة وغزوة الأشرفية والجمعة العظيمة وحقوق المسيحيين، لولا هذا القانون الطائفي بامتياز. في لحظات الحقيقة الكبرى، لا مكان للمقاربات الآنية. كان بالإمكان، أفضل بكثير ممّا كان. 
 
وإلى تأييد الربيع العربي درّ، وفصول غزة ومواسم النازحين السوريين. أيضاً، التبرير. لا شكّ بتأييد الرجل للربيع العربي، ولكن، الجمع بين التأييد وبين قوانين الفصل العنصري والطائفي لا تستقيم. الجمع بين حرية الشعوب وحرية الطوائف، غير منطقية. للطوائف حقوقها، الدولة وحدها تؤمنها. تلك الدولة التي كان بالإمكان العبور إليها. ليس اليوم من فعل ممكن، فلا إمكانية لدولة تأتي من صناديق ـ متاريس. 
 
في اللحظة التي يمكن الحديث فيها عن ربيع عربي، يكون الزمان للارتقاء فوق الجغرافيا. وفي اللحظة التي يُمكن الحديث فيها عن شراكة، يُصبح ضرب المثل، بمقعد نيابي في الأشرفية، سيّء. كان بالإمكان، تفاديه. 
 
صحيح أنّ 14 آذار كان عليها الإلتفات إلى أوجاع اللبنانيين، لكنها لم تفعل. لا بقانون انتخاب ولا بغيره. أمّا الاستثناء، استثناء بعض اللبنانيين، هو عودة إلى الجغرافيا مرّة جديدة. والقول بقانون انتخاب جديد من دون أن نوقظ شياطين قديمة، ماذا يعني؟. الشياطين، أيقظها قانون الانتصار، وإن "رُفضت أجواؤه". 
 
وللحديث أكثر، وبصراحة أكبر، وبنقاش عقلاني. غابت السياسة عن معراب. في الاحتفال الحزبي، لإطلاق الإنتساب، كان بغنى عن أحاديث القوانين المملّة. الاحتفال، كان لاستقبال الكوادر، لكودرتهم في الإطار الحزبي. الحزب المسيحي، حين يفتح الباب لاستقبال المسيحيين والمسلمين في صفوفه، لا يُمكن له أن يكون مع مشروع كقانون الأرثوذكسي. الخروج من الجغرافيا، لا تكون ببطاقة انتساب.. للجميع. 
 
باختصار، أعطى جعجع في السنوات السبع الماضية، إشارات لم يعطها أي زعيم سياسي عاش الحرب الأهلية وكان جزءاً منها. في احتفال مضى، خرج ليعتذر عن كل الماضي. وحده كان من بين الجميع من امتلك جرأة الاعتذار. كان بالإمكان ترك الجغرافيا، كي لا تذهب جرأة الاعتذار. 

الخميس، 21 فبراير 2013

إمتحان الخوف


أيمن شروف ـ المدن 

القانون الأرثوذكسي ليس نهاية العالم. هو مجرّد مرحلة تُعبّر عن الواقع السياسي اللبناني، والقول بالواقع السياسي هو ربط في محلّه بالطائفي منه. في لبنان، كل سياسة، أو غالبية السياسات، انعكاس للطائفة، لهواجسها ومتطلباتها، لرؤيتها وارتباطاتها. هذا واقع لا يتغيّر، وإن تغيّرت العناوين في مراحل ما، وتحوّلت عن الطائفة إلى الوطن، فهي لا تلبث بالعودة، إلى الأصل. 
 
مشروع القانون الأرثوذكسي، يشي بحالة مارونية، تتخطى فكرة القانون، لتغوص في عمق الوجود المسيحي. هذا القانون، الخارج عن كل ما له علاقة بفكرة الدولة الجامعة، وهو تعبير فضفاض أساساً، على قيادات المجتمع، المسيحي وغير المسيحي، يمتحن أساساً، قدرة القيادات المسيحية على الجرأة. الجرأة في القرار، والجرأة بالمنطق، والجرأة المنعزلة عن حسابات انتخابية، وحسابات الأقلية الخائفة، تحديداً في هذا المخاض الذي تعيشه المجتمعات العربية، المجاورة منها، قبل البعيدة. 
 
فعل الجرأة، يمتحن، أو بالأحرى امتحن، قيادات مجتمع مُنقسم إلى نصفين. عادة، هذا التنوّع في الشارع المسيحي صحي، كما كان الحال أوائل السبعينيات من القرن الماضي وما قبلها. الاتفاق على القانون المشؤوم، أخرج الانقسام من موقعه الصحي، وحوّله إلى داء، ليس الخروج منه بهذه السهولة، وليس الحديث عن بديل مقبول، بعناوين عدالة التمثيل سوى تفصيل، مُمل يغطي حسابات الميل إلى غلق المجتمع، بذريعة المجتمع. 
 
قرار ميشال عون على سبيل المثال، وبما أنه جزء أساسي في الانقسام، ليس بغريب أو جديد، الرجل حساباته واضحة تماماً. هو من البدايات، بداية التحولات العربية، نحا إلى تكريس خيار تثبيت الإنغلاق، وجاهر بذريعة حماية الأقلّيات، ليُكمل ما بدأه. ساعده في ذلك، بعض ما هو خارج عن المألوف في مسيرة الثورة السورية تحديداً. عدا عن إنغماسه المطلق في الفكر الذي يقول بتأمين قرى حوض العاصي، بما يتخطى فعل الانغلاق، إلى المساهمة في ترسيم حدود الحماية لمجتمعه، ومن يتحالف معه للحماية. 
 
على هذه القاعدة، يُمكن فهم خيار الرجل، وعلى قاعدة التحالفات التي ساقته أحياناً وساقها هو قليلاً، ليس مُستغرباً، أن يرفع نخب قانون الفصل المذهبي، وليس مُستغرباً أن يشعر بنشوة انتصار مذهبية. الغريب، كان في المكان الآخر. في المكان الذي منذ بضعة أشهر، جعل من ذكرى حلّ حزبه، مناسبة ليطلّ على دول الربيع العربي. من تونس إلى مصر مروراً بسوريا. الصدمة هنا مضاعفة. الجمع بين ربيع الشعوب وقوانين الانغلاق، لا يُمكن أن يُفهم، في بلد أصبح الفهم فيه، ضرب من المستحيل.
 
سمير جعجع، فوق محاكمة نواياه سابقاً، سقط في امتحان الخوف. من قال أن الرجل جريء؟ الماضي، ومن قال أن الثبات على الموقف هو جرأة. السياسة لعبة، الجرأة فيها، آخر المتطلّبات. أن يرفع رأسه ليُقنع من حوله أن الحياة موقف، وأن الرجل مبدأ، شيء من لعبة العاطفة التي تُغرّق بها المجتمعات. في السياسة، هذا لا شيء. الجرأة هنا، هي ستار الخوف الدفين الذي خرج في لحظة نهاية صلاحيّته. والكلام المبدئي في هذه الحال، هو تكريس لبروباغندا الخوف والانغلاق. 
 
الأسئلة التي يطرحها اليوم، من تحالف مع الرجل في مراحل سابقة، وتحديداً بعد خروجه من السجن، واقعية بامتياز. وضعها في غير خانة، أخذ النقاش إلى مكان آخر، بعيد عن العقلانية. لا ذريعة الرأي العام المسيحي مقنعة، ولا حكايات البديل المنتظر عذراً أو تبريراً. الأسئلة هذه، وليدة تجربة معاصرة، واحتكاك مُستمرّ، تقول بشيئين، إمّا عدم قدرة على فهم الرجل، أو فهم العام منه، من دون العناية بالخاص. وفي الحالتين، هناك مفقود، أوجده الأرثوذكسي، لدى الرجل، كما لدى من يسأل.  
 
هو المجتمع اللبناني نفسه الذي يعيد إنتاج تجاربه السوداء، وهو المُجتمع المسيحي نفسه الذي يُفرض عليه استعادة مؤلمة. طرفا الزعامة، جمعتهما الهواجس، وإن اختلفت الأساليب. سقطا كما حال غالبية الزعامات التقليدية، في اللحظات الحساسة والكبرى. خيار العودة إلى الطائفة، والمذهب، هو خيار الانتحار الوطني  الذي يجعل من المسيحيين أهل ذمّة، في دائرة أكثرية لا يُحتمل اللعب معها بهذه الطريقة العشوائية. لعبة، لن ترحم من في هذه الأرض، إلى أيِّ نسيج انتموا. 
 
لعلّها خطيئة الجغرافيا، أو القدر. خطيئة يمكن ان تكون عابرة، لو استطاع من في موقع المسؤولية، أن يتخطى عقدة الديموغرافيا، فلا يكون مُجرّد رجل يُمسك الآلة الحاسبة، ليبني على الأعداد سياسة غلق مجتمع بأسره، يُظلم كثيراً، إن اقتنعنا أنّه مع هذا الانتحار. 

السبت، 16 فبراير 2013

ونحن أيضاً نُحبُّ الحياة

أيمن شروف ـ المدن 

إنتقاد قوى "14 آذار"، أكثر بكثير من النقد الذي يوجّه إلى قوى الثامن منه. هذا ليس بالأمر الغريب، عادة، من يتعرض للنقد، هو من يقول إنه يحمل مشروعاً وطنياً. يرسم له خطة طريق، ويروّج لنفسه على أنه الوحيد القادر على أن يمسك يد اللبنانيين جميعاً، ويحملهم معه في رحلة العبور إلى الدولة. هكذا كان الحديث الجميل والشعارات الملوّنة بأحلام اللبنانيين، في مؤتمرات البريستول. 
 
النقد لا يُمكن أن يوجّه إلى "8 آذار"، هي يوماً لم تحاول أن تطرح مشروعا نهضوياً وطنياً. على الأرجح في العام 2007، سُرّبت الأخبار عن اجتماعات تعقدها هذه القوى لوضع مشروعها السياسي، ومحاكاة مستقبل البلاد، والمواطنين فيها. وتبيّن لاحقاً، أن لا اجتماعات ولا نيّات. واقع هذه القوى لا يسمح لها بأن تتعاطى مع جمهورها بهذا الإنفتاح، الإنفتاح بهذا الشكل، خطأ استراتيجي. 
 
غالباً ما اعتمدت الجماعات والأحزاب الشمولية، أو القائمة أساساً على فكرة الخوف والتخويف، على نمط مُملّ ومسيء، في التعاطي مع جمهورها. هذه الأحزاب أو التجمعات، كلّما فتحت آفاق الخروج من التقوقع أمام جمهورها كلّما خسرت. الجمهور يجب أن يبقى معبأ. التسيير، لا التخيير، هو الحلّ الأمثل للبقاء. 
 
من هنا كان النقاش دائماً، والنقد، فقط لفريق دون آخر. ومن هنا، فشل من يحمل الطروحات الكبيرة، أقسى من فشل ذلك الذي لم يُؤمن يوماً بتقديم تلك الأوراق التي تتحدث عن الدولة وبنائها. 
 
وبين هذين الخطين، وقعت الدولة، بمفهومها. لا بل أُوقعت، فأصبح الشعار على الجبهتين، فارغاً تماماً من كل ما له علاقة فعلاً، بشيء من ذاك الذي يبعث الاستقرار للفرد، ويجعله جزءاً من دولة، يكون فيها مواطناً، له فيها وعليه تجاهها. 
 
وتبعات الفشل، التي تُلصق بالفريق الذي حمل شعار الدولة، لا يُمكن وضعها في خانة حرب الفريق الآخر عليه، ولا يمكن على طريقة الهروب إلى الأمام، القول بأن ذاك الفريق لم يترك مجالاً لقوى 14 آذار بصفتها الفريق الساعي إلى الدولة، أن تُكمل مسيرتها، وتحقق الأهداف التي رسمتها لشعبنا. هذا التبرير، ليس بريئاً، ولا يُمكن رفعه كعذر، يسمح لمن يريد العبور إلى الدولة أن يتقاعس، أو أن يحوّل مشروعه إلى ضحية. وهذا الحاصل فعلياً مع 14 آذار اليوم. 
 
في أصل هذا الفشل ما هو أكبر من مواجهة فُرضت، منعت أصحاب شعار الدولة من المضي قدماً في تثبيت دعائم هذا المشروع. لقد سقطت قوى 14 آذار في الكثير من المحطات. سقوط أعطى لمن يخاصمها فرصة الانقضاض عليها، وحشرها، وإخراجها من الكادر الذي قالت إنها وضعته لنفسها. ومن يحمل مثل هذه المشاريع، لا يُمكن أن يكون في موقع ردات الفعل، وهذا بالضبط ما كانت عليه 14 آذار دائماً. 
 
أظهرت هذه القوى أنّها غير قادرة على استثمار التعدد الموجود فيها، وتحوّلت تدريجياً لكي تكون مجموعة من المنغلقين على أنفسهم، وأخرجت، وخرّجت من كنفها، مشاريع القيادات المنفعلة والسطحية، كما خرّجت مشاريع النوّاب ومريدي السلطة والكراسي. كان لها أن تكون على شاكلة خصمها، غايتها الوحيدة، محاربة الآخر، ورفضه. هي في الأصل أيضاً، في بداياتها، نزعت عباءتها عن أي مختلف عنها، أو أيٍّ ممن يقف أمام تسوياتها "السلطوية"، لا الوطنية. 
 
وهي، القوى الاستقلالية، سقطت مراراً حين استعادت تجارب أيام الوصاية، فحاصصت فيما بينها، من دون أن تكترث لأي ما له علاقة بحداثة ادّعت تمثيلها. وهي أيضاً، حين قالت بأنها قوى مدنية، لم تجرؤ على طرح مشروع مدني واحد، تغييراً للسائد أو كسراً لصنمية التفكير الموروث. وهي، القوى السيادية نفسها، أثبتت بالتجربة، أن لا قدرة لها أو لا نيّة على ابتداع سياسة من خارج المألوف المحبط.  
 
الفريق السلمي، أذى الدولة، مثله فعل الفريق اللاسلمي. كلٌّ على طريقته، حمل أحلام اللبنانيين، ولعب وتلاعب فيهم وفيها. طوّعهم أبداً، الأوّل قال لهم "أحبّ الحياة"، ولعب على عاطفتهم، لعلّه كان صادقاً بالشعار، لكنه أساء التطبيق وأساء لمن اندفع نحوه مؤمناً ومؤتمناً له على مستقبله. الثاني ردّ، "أحب الحياة بكل ألوانها"، شعار ليس فيه سوى السخرية من الأوّل، شعار بلون أو لونين، لا أكثر. 
 
كل هذا، والدولة تتآكل، في انتظار طائفة اللبنانيين التي تقول للإثنين معاً: ونحن أيضاً نحب الحياة. 

الاثنين، 11 فبراير 2013

أين الشركة والمحبة؟

أيمن شروف ـ المدن

60 ألف شهيد سوري، إن لم يكن أكثر. البلاد محاصرة بالنار، البشر تحت رحمة الرصاص، السجون مساحات قمع وتعذيب وخطف وموت. كل ما في تلك البلاد، أحكام إعدام ميدانية، لا شيء يعلو فيها فوق حكم قائدها الخالد. بلاد، فيها الموت لعبة بقاء، وفيها كذبة عائلية، تحوّلت إلى كذبة أقليّة، يراد منها تعاون الأعداد على من لا يؤمن بالتعداد.
هي تلك البلاد المدمّرة، التي زارها البطريرك بشارة الراعي. هي تلك المساحة التي لا وجود لـ"الشركة" فيها ولا لـ"المحبة". سوريا، من حيث كان يخطب الراعي، فيها عذابات من لا يراهم مُمثل الكنيسة، ممثل التسامح.
أسئلة كثيرة تطرحها زيارة نيافته إلى دمشق، لا تبدأ بالزمان ولا تنتهي بالمكان. أسئلة كثيرة تحاكي الوجود المسيحي الذي يحارب من أجله البطريرك. أسئلة، تتعدّى زيارة قيل فيها رعوية، لكن تبعاتها السياسية أبعد وأخطر بكثير، وإن سيظهر لبنانياً من يحاول تقزيم الحدث، ومن سيلعب دور البطولة في الدفاع عن الرمز المسيحي الأوّل في المنطقة.
في عزّ الحديث عن الهواجس الأقلويّة، المسيحية على وجه التحديد، يبادر البطريرك، عبر زيارته دمشق، إلى إعادة إحياء تحالف الأقليات الذي بنى عليه النظام السوري أمجاده، والذي أباح من خلاله استباحة القضايا والناس والماضي والحاضر والمستقبل، منذ عقود وإلى اليوم. هكذا، من دون منّة من أحد، يبادر الراعي إلى تقديم هدية مجانية للعائلة السورية الحاكمة وبعثها، هدية، فيها من الألغام ما لا قدرة لا للراعي ولا لغيره، على وأد مفاعيلها.
والحديث، ليس من باب تسجيل النقاط السياسية على كنيسة كانت تاريخياً في خضم اللعبة السياسة، بل من باب الحرص على تنوّع، يبدو أن من يجاهر بحمل شعاره، يركض إلى الهاوية بقدميه، آخذاً معه طائفة بأسرها، أصبح من الآن وصاعداً، حديثها عن الهواجس مشروعاً، لا بل تحوّل مع خطوة ربطهم بمآل عائلة حاكمة في سوريا، إلى عامل خوف، له أن يتحوّل هرباً أو استشراساً، يعيد خنق المناطق وفدرلة النفوس، ورفض كل مختلف، سيرون فيه مغتصباً، وإن لم يكن.
لعلّ رأس الكنيسة لم يحسب تداعيات زيارته، وهنا الكارثة. لعلّه غض النظر عن النظام السوري وهو يحوّل جزءاً من ثورة الشعب للحرية، إلى مساحة للأحقاد يساهم في تأجيجها ذلك القتل الذي لا يعرف رادعاً، فأبى سيّد الصرح والمؤتمن على الوجود، إلّا أن يكون مشرّعاً من حيث يدري أو لا يدري، لمزيد من عزلة جماعية، تفرض في سوريا، ويُراد لها أن تكون في لبنان. وهنا في لبنان، الأرض خصبة، ومن ينتظر للانقضاض على عيش مشترك، كُثر. وألم يستمع نيافته إلى خطابات الشد العنصري والطائفي الخارجة من غير مكان، ألم يلمس مآرب من يلتمسون قيام مارد الطائفة، وما أكثرهم في كل طائفة؟
قد يعود البطريرك الراعي من سوريا، ليروي الكثير ويفسّر أكثر. قد يعود من بلاد الموت ليتحدث عن أهمية الديموقراطية، ورفضه إراقة الدماء، وسيسترسل على عادته في الإمعان بالشرح، الذي غالباً ما أوقعه بشرّ ما اقترفه، وبدل أن يخرج من الخطأ، يزيد منه، ولا من يدري.
لكنّه، وإن نجح ولو لمرّة في تبرير موقفه، قد لا ينجح في رفض وإنكار استغلال النظام السوري لزيارته، وهل سمع هو ما قاله فيصل المقداد عن زيارته إلى دمشق؟.
هنا، قد يكون الحديث أوضح والموقف أكثر إيلاماً، وهنا، ومع ممثل بشار الأسد الجالس بجانب البطريرك، قد يكون من الصعب، إنكار ما نقلته عدسات الكاميرا، من تصفيق خرج عن رجل "الشركة والمحبة"، حين ذُكر اسم قائد حلف الأقليات الخالد.
غداً، حين يعود البطريرك، سقف الحديث، لن ينزل قيد أنملة، عن سقف "القانون الأرثوذكسي"، وشعار: إنعزلوا إنّهم يتربصون لنا. حينها، قد لا يكون من المفيد استذكار مآثر البطريرك نصر الله صفير. ذاك الزمن، ولّى، بإرادة ممثّل الكنيسة نفسها. مُمثل لابد من أن يُذكَّر: نيافتك، كفّ عن اللعب. 

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

جنبلاط لـ"المدن": في جعبتي قانون انتخابي


نزح النائب وليد جنبلاط من المختارة. هناك، كثير من الهدوء إلى حد الضجر. جميلة، ليس دائماً. كلّما طالت إقامته فيها ازداد شعوره بالوحدة. في كليمنصو الأجواء أكثر راحة، بيروت التي تفقد رونقها يوماً بعد يوم، تُشعره بشيء من الحياة. هنا العائلة والأصدقاء واللقاءات. هنا السياسة بتفصيلها المُمل بالنسبة له. تحديداً تلك التي لها علاقة بلبنان.
جولاته الكثيرة لم تُغيّر من واقع الحال. هو لا يذهب خلف البحار بحثاً عن قانون انتخابات. زار باريس  الأسبوع المنصرم، سأله الرئيس الفرنسي أسئلة محددة عن الوضع اللبناني، وأجابه. فرنسوا هولاند مُطلع على واقعنا السياسي. أسئلته كلّها لها علاقة باستقرار لبنان، لا بتفاصيل التجاذبات السياسية. تسأله: قانون الانتخابات؟، يقول: من السخافة الحديث عن قانون الانتخاب، أنا لا أتحدث به هنا، لأتحدث به مع هولاند.
في باريس أيضاً، التقى الرئيس سعد الحريري. جلسة هادئة وودية، أقل من ساعة بقليل، تمحور فيها الحديث عن الوضع العام، سوريا على وجه الخصوص. المرور على الواقع اللبناني كان في قانون الانتخابات. رسالة وحيدة أراد إيصالها جنبلاط لمستضيفه: أرفض الأورثوذكسي، ولا أمشي بالخمسين دائرة، ولا أرضى بأن يلغيني أحد.
يحتفظ جنبلاط بالكثير من الودّ للحريري. العلاقة الشخصية متينة، كانت وستبقى، وامتداد الشوف السنّي أساس. الرجل لا يريد الخروج من التنوع الموجود في بيئته تحت أي ظرف. أمّا قانون "المستقبل" المطروح، فلا تعليق عليه. يعود بالحديث إلى علاقته بزعيم "المستقبل". يتحدث عن جرأة الأخير فيما خص الزواج المدني. المعضلة ذاتها التي واجهها رفيق الحريري، يتخطاها سعد اليوم.
يحمل جنبلاط في جعبته اقتراح قانون انتخابي، يرفض الإفصاح عنه: لا أريد طرحه الآن، إن طرحته اليوم سيحترق، هناك وقت، يقول لـ"المدن". لكن، خمسة أشهر تفصلنا عن الانتخابات، أيضاً، يردد: معليش، بكير.
الكيمياء  بينه وبين الأفرقاء المسيحيين على حالها، مفقودة، تحديداً رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع والجنرال ميشال عون. بنظره هما من خلفية واحدة، وإن اختلفت آرائهم السياسية. من هنا حديثه عن أن لا أحد يلغيه. قبل موضوع "الأرثوذكسي"، كان هناك من يتحدث عن خطيئة تقترفها 14 آذار إن عادت للتحالف مع جنبلاط، فهو غير مضمون. أما الأرثوذكسي نفسه، فحرام لأنه يقضي على البلد.
يقول إنّه يمشي على الحبل، إن وقع يساراً يقولون إنه أصبح في 8 آذار، وإن وقع يميناً، يقولون أنّه عاد إلى 14 آذار. فهل هو في الوسط؟ يجيب: ليس هناك من وسطية. لا يذكر الرئيس نجيب ميقاتي كثيراً، أمّا الرئيس سليمان فهو "يحاول أن يصمد، ويحافظ على الاستقرار، هو يلعب دوراً وطنياً، وليس فئوياً". الرئيس نبيه بري، على عادته، الصديق والحليف العتيق.
في معرض حديثه عن واقعه السياسي، ودوره المحوري بين 8 و14، وتحديداً في مجلس النوّاب، يقول جنبلاط: من أيام كمال جنبلاط لم يحصل الحزب على هذا الدور. يحسدوننا عليه ويريدون أن يلغوا الاختلاف، أو كل من هو خارج الانقسام نسبياً. يضيف: لديّ سبعة نوّاب أريد الحفاظ عليهم. النوّاب الذين تركوه منذ عامين حين اختار ميقاتي للحكومة ليسوا معه ، يعدّهم بالأسماء، ويقول: "بالتأكيد ليسوا معي". لا أنصاف حلول بالنسبة له.
تقلقه عرسال، وتُقلقه الفتنة. الالتفاف حول الجيش لا يلغي رفض لغة الانتقام من "مدينة المقاومين والمناضلين"، يقول، ويضيف: محاولة زجها بمواجهة مع الجيش ترمي لضرب الاستقرار، وهذا مرفوض.
من عرسال المحاذية للحدود الشرقية، يدخل جنبلاط إلى الملف السوري، شغله الشاغل هذه الأيّام. يقول: تركوا الشعب السوري وحيداً، يريدون أن تحترق سوريا. يضيف: قلت لوزير الخارجية الروسي حين التقيته إن سوريا ذاهبة إلى دمار والحرب الأهلية، رد قائلاً، بشار لن يترك سوريا. بعد هكذا جواب، ماذا يُمكن أن أقول. وصلت الرسالة. يضيف: الروس اعتبروا أن الأميركيين أخلّوا باتفاق جنيف، وبالتالي عادت الأمور إلى نقطة الصفر.
اليوم، لا يخفي جنبلاط إعجابه برئيس الائتلاف الوطني السوري معاذ الخطيب. بنظره، "الرجل صادق، ومبادرته ممتازة لمحاولة كسر هذا التخلّي الدولي عن الشعب السوري". لا يرى أن سقف مبادرة الأخير منخفض، ففي هكذا ظروف، ما طرحه الرجل أكثر من واقعي، إطلاق المعتقلين ومحاسبة من قتل.
يُدرك جنبلاط حجم التواطؤ العربي والدولي على سوريا. أصدقاء الشعب السوري أين هم؟ يسأل. يتابع انتقاده لما جرى ويجري، يقول: يعارضون توحيد الجيش الحر، الأموال تذهب إلى مجموعات إسلامية لم يكن لها أي وجود، السلاح أيضاً. مع هذا المشهد ماذا يُمكن أن نقول؟
كل هذا الكلام، لا يلغي نظرة جنبلاط إلى النظام السوري، إلى رأس هرمه. يقول: لا يعرف سوى القتل والدمار، أكثر من 60 ألف شهيد، أجمل مدينة في العالم، حلب، دُمرت. وها هو يجول بطائراته على ما تبقى من سوريا من دون رادع. 

"المستقبل" و"القوّات": الاشتباك بالقوانين


1096

أثناء تقديمهم لاقتراح القانون (علي فواز)

حوّل "تيار المستقبل" مبادرة الرئيس سعد الحريري إلى اقتراح قانون "متكامل" قدمه نوابه اليوم الإثنين إلى مجلس النوّاب. أخيراً أصبح بإمكانهم الحديث من خلفية أنهم يملكون البديل، هذا ما لم يكن موجوداً في السابق، وهذا أيضاً ما كان يعاني منه حلفاؤهم، وما قاله بعض قياديي التيار في المجالس المغلقة، في معرض النقد الذاتي لكيفية العمل السياسي السائد. 
 اختلف الوضع. أصبح أمام البرلمان برنامج يتعدى قانون الانتخاب ليبحث في تطبيق الطائف ولو جزئياً، مع تأجيل ما يُمكن أن يستفزّ من يعتبر نفسه مهمّشاً أو مظلوماً. لكنّ، من تقدم باقتراح القانون أي النائب أحمد فتفت، انتهى من مهمّته، ودخل جلسة اللجنة الفرعية، التي كانت هادئة عموماً، ليستمع إلى النائب جورج عدوان يطلب مهلة زمنية ليتقدم هو أيضاً باسم "القوّات" باقتراح قانون، ومُتكامل أيضاً. 

الفارق بين قانون "المستقبل"، وقانون "القوات"، 13 دائرة. تقول مصادر قياديّة في الأوّل: "المشروع الذي قدمناه قريب من مشروعهم بمعنى الدوائر، وهو من الممكن أن يكون وسيلة أو أرضية لفهم واتفاق مُشترك. بنظر هذه المصادر فإن "حركة عدوان اليوم قد تخفي في طيّاتها، محاولة لقطع الطريق على مشروع التيّار، ومنها لينطلقوا للقيام  بتحوّل ما عن الأرثوذكسي، فكل شيء وارد". 
من معراب، الأمور تبدو مختلفة قليلاً، "لا تعليق" على مبادرة الحريري، و"لا تعليق" أيضاً على اقتراح القانون المُقدم اليوم، في انتظار إطلالة سمير جعجع على شاشة "المستقبل" الثلاثاء، ليتحدث ويعطي رأيه ورأي حزبه بالمبادرة. الإطلالة على المحطة الزرقاء، لها دلالاتها. الرجل يريد التأكيد على أن لا قطع مع حليفه المسلم، وإن كان هناك وجهات نظر متباينة. 
كل هذا لا يخفي "العتب" الموجود واحد تجاه الآخر. لكنّ التواصل مُستمر كما تقول الأوساط. أمّا تحرّك عدوان اليوم، فهو على قاعدة "هناك ما يُناسبنا، وما لا يُناسبنا"، تقول الأوساط، وتضيف: لدينا هذا الحلّ، ولا شيء مستحيل. 
على ما يبدو، فالطرفان لا يريدان الابتعاد كثيراً، يُدرك كل منهما أن لا مناص من اللقاء والاتفاق، إنما الرسائل المتبادلة علانية، توحي بخللٍ ما، مردّه "الأرثوذكسي" كما يقول "المستقبل"، وتأخّر تحرك الحليف المسلم وتقديمه البدائل، يقول "القواتيون". 
هكذا، يتحوّل النزال داخل الصف الواحد إلى "شدّ حبال"، مواجهة في مجلس النوّاب بالقوانين ومشاريعها. خارج أسوار ساحة النجمة، لا أحد يعلم ما الذي يحصل، حتى من هم داخل 14 آذار وخارج أحزابها، مربكون إلى أقصى الحدود، فلا يأخذون من هذا أبيض، ولا يسمعون من ذاك أسود. يجلسون في مكاتبهم ليقرأوا بالسياسة خطوات من يتحالفون معهم في السياسة أيضاً. مثلهم مثل أي طرف يحاول أن يفهم من بعيد ما الذي يجري مع خصمه. 
أمّا اجتماع لجنة التواصل، فقد سُرقت منه أضواء "المُختلط"، الذي كان البند الوحيد أمامها. لكن، بالرغم من كل هذا الواقع، يبقى أن اجتماعات "الفرعية" هي الأساس، مهما كان القانون المطروح للنقاش، يقول من شارك في اجتماعيها اليوم. اجتماع صباحي بحث بنسب الأكثري والنسبي، ومسائي للاستماع لكل طرف، رأيه في هذا ورأيه في ذاك. 
هذا في النسب، أمّا حصّة الأسد، فهي للدوائر وتقسيمها. يقول أحد المشاركين في الاجتماع الصباحي: كل الحديث يتمحور حول نسبة الأكثري والنسبي. مناصفة، أو 60% أكثري والباقي نسبي، أو 70% أكثري و30% نسبي.. ينتهي هذا النقاش، ليُفتح نقاش الدوائر. 
على أي حال، غداً يوم آخر. انتظار ما سيقوله جعجع ضروري، بغض النظر عن "إشارة" عدوان الصباحية. لكنّ الأهم في كل هذا الواقع، أنّ الممارسة توحي بأن لكلٍ من الحلفاء أجندة، وكل واحد يريد للآخر أن يلحق به، لا الالتقاء على أي مُشترك. 

الجمعة، 1 فبراير 2013

سعد المدني



كل ما قاله سعد الحريري في حلقة كلام الناس، في ميزان. ما قاله فقط عن الزواج المدني في ميزان آخر. الزعيم السنّي، الذي لا يُفوّت فريضة من "أركان الإسلام الخمسة". لا يُمانع "الزواج المدني" الذي كال له مفتي الجمهورية ما لم يكله بعدوٍ كإسرائيل، على سبيل المثال.

جريء كان الحريري في كلامه، وفي مقاربته لموضوع حساس وشائك. أكثر المتفائلين لم ينتظر منه هذا الموقف. ابن رفيق الحريري الذي عارض "الزواج المدني" حين كان رئيساً للحكومة عهد الياس الهراوي، ثار على والده أولاً، على دار الفتوى ثانياً، على ارتباطه بمملكة تمنع النساء من القيادة ثالثاً، على واقع مُتطرف، لا يبدأ ببؤر البؤس في التبانة، ولا ينتهي في خطاب أحمد الأسير، وملئه فراغاً تركه غياب الحريري المُستمر.

الرجل الذي "لا يقبل بأن يزوج ولديه مدنياً"، لا يقف بوجه لبنانيين يختارون بملء إرادتهم، أن يكونوا خارج عباءات الطوائف، طوائف لا يكفيها عبثها بحياتنا جميعاً. طوائف ستخرج اليوم وغداً، لتنال من سعد الحريري. حينها، كُثر سيتحولون بسحر ساحر، إلى أئمة ومشايخ، لا يُدنس إيمانهم، موقف رجل، اختار أن يكون مع شابات وشبان لبنان، لأنه واحداً منهم..

في هذا البلد، يبدو من المستحيل، أو بالأحرى، ممنوع على زعيم سياسيّ أن يُغرّد بعيداً عن بيت الطاعة الطائفي. فعلها الحريري بالأمس، وهو يُدرك سلفاً ما ينتظره. ويُدرك أيضاً أن مدنية تياره لن تشفع له. لكنّه فعلها. كل ما تبقى تفاصيل لا تُقدم ولا تؤخّر، وكل من يقول أنّه خطى هذه الخطوة في سياق حربه على المفتي وعلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هو كمن يقول أن الحريري ذهب إلى الانتحار برجليه. مُمكن أن يكون قد فعل، ولكن من غير المُمكن أن تكون فعلته تحدياً.

مُملّ هذا البلد، ومضجرون نحن. في القرن الواحد والعشرين، نُهلّل لموقف مؤيد لحرية فرد في اختيار مستقبله.. لعلّها لعنة التعدد الذي نتغنى به، أو لعلّها لعنة جهلنا وتخلّفنا، جميعاً.

أمّا سعد الحريري، المؤمن بالربيع العربي، وما يستتبعه هذا الإيمان من تمسّك بقيم الإنسان، فهو بالتأكيد، سمع مآذن جوامع بيروت، تصدح في باريس، لتكيل له ما طاب لملتقط مذياعها من تكفير.. وشتائم. هي في الميزان الوطني والإنساني، إشادة.

يبقى، على من يقومون بحملة "تزوجنا مدني.. وع قبالكن"، أن يحشروا الحريري وغيره، سريعاً، كي يكسبوا  ولو مرّة، أجرهم في الخروج الطوعي عن ظلامية الطاعة وبيوتاتها.

الثلاثاء، 22 يناير 2013

دولة النزف الإنساني

أيمن شروف 

تجمعات وليست مخيّمات. هكذا قررت الدولة اللبنانية تسمية أماكن إغاثة اللاجئين السوريين. كلمة مخيّمات تمرّ ثقيلة على اللبنانيين، برأيهم العام وطبقتهم السياسية. غالبية هؤلاء، تحيلهم الكلمة إلى عين الحلوة ونهر البارد وبرج البراجنة وصبرا وشاتيلا وغيرها من مخيمات الشتات الفلسطيني. إحالة تقودهم إلى خوف على مستقبلهم، فاللاجئ بهويّته الطائفية مُخيف. يحمل معه تغييراً ديموغرافياً يُرهب أقليّات هذه البلاد، التي لم تخرج، وعلى الأرجح لن تخرج من خوفها التاريخي. 

السوريون اليوم، كفلسطينيي الأمس. هكذا يُنظر إليهم. أكثر من سنة ونصف أخذت القوى السياسية مجتمعة، كي تقول أن واجبها إغاثة أولئك الهاربين من مستنقع الدماء الممتد فوق الأرض السورية. خلاصة لم تأت لأن "الحكومة اللبنانية بتلويناتها المختلفة مع حقوق الإنسان، بل كانت نتيجة حتمية لتقصير فاضح، ساهم في ظهوره علانية، حملات عنصرية فتحها البعض لأغراض أبعد ما تكون عن فكرة رضوخ الدولة لقانون جنيف.
 
بين سياسة النأي المزعوم والطاعة المفروضة، غرق النازح إلى لبنان في وحول الرجعية اللبنانية. افترش طرقات، مدارس، حقول. بحث عمّا يبقيه صامداً هنا، كي يعود إلى هناك. لم يجد، سوى مبادرات فردية، من ناشطين ينتمون إلى جيل القهر اللبناني، ومساعٍ حزبية من قلّة شعرت بالمسؤولية الإنسانية، عن مظلوميّة مُستعادة بحق شعب بأكمله. 
 
لم ير وزير السياحة اللبناني باعة الورد في شوارع بيروت. لم ير أبناء حمص ودمشق ودرعا في عراء البقاع، في خيم الصقيع، في حرب الطبيعة ضدهم. كل ما يريده، طبقة ارستقراطية أتت سائحة، تعوّض ما فات على لبنان من مواسم اصطيافية خطفتها دولة عاجزة عن حماية درّاجين استونيين عبروا شاطئاً، فوجدوا جبلاً. أيضاً، لم ير وزير الطاقة والمياه في رحلة النزوح السورية إلّا ذريعة لاستعادة مجد مسيحي ضائع، في بلد تحوّل فيه الضوء إلى مناسبة، إلى عيد، تُقام له الصلاة في كلّ دار. 
 
 كذا مع كل طرف في الحكومة العتيدة رواية، كشفتها الثورة السورية. النازحون تحديداً. خرج الحزب الذي أرسل مئات الآلاف من اللبنانيين الجنوبيين إلى أحياء حمص وحلب ودمشق في حرب تموز بحثاً عن ملجأ آمن، إلى ساحة جهاده. لا للمخيمات، قالها ورددت خلفه جوقة الأحزاب التابعة والمستتبعة لنظام الوالي الدمشقي. اللاجئون خطر لابد من مواجهته، شعار كان قبل أكثر من سنة ونصف. شعار رضخت له القوى التي جاهرت أنها مع الثورة، فانكبت وجوهها على الشاشات، المطلوب واحد: إسقاط إشاعة ـ خطيئة تبنّيهم إقامة مخيّمات اللاجئين في عكار وفي البقاع الشمالي. 
 
مضت الأيّام، رُفعت التقارير إلى الحكومة، حصراً من وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور. هذه المرّة ليست كسابقاتها. لم يجد وزير الحزب القومي ووزير "المردة" ذريعة لرفض تحويل الأموال للهيئة العليا للإغاثة كما حصل من قبل. غيرهما لم يعترض كثيراً، فقط يريدون أن يطمئنّوا أن لا تغيير بالديموغرافيا. الانتخابات في موعدها وبالقانون الذي يؤمّن الوصول الميمون إلى تجديد طبقة الجليد السياسية. 
 
النازحون السوريون إلى لبنان، يعيشون. يتنفسون. مساعدات "إمبريالية" ترضى بها قوى الممانعة، كي تُخفف عن نفسها حمل المشاركة في تأمين حياة من رفض الموت في دولة القائد الخالد. نازحون نزحت بهم الدولة اللبنانية أخيراً إلى المشاع العربي، كي تُشارك أخوانها حملها الثقيل. في النهاية، المشاع العربي الإنساني لن يكون كالمشاع الأممي. هذا العربي يدرّ المال، ذاك الأممي يدرّ المساعدات، والخوف من كشف سيادة دولة لا وجود لها. 
 
نزح السوريون إلى لبنان، فانكشف ما يُضاف إلى واقع موت دولتنا الرحيم. نزف إنساني، يمرُّ على طبقة سياسية بأسرها، مرور الطيور المهاجرة في محطتها اللبنانية، حينما يخرج صيادو الفرص.. للصيد المذهبي والسياسي، صيد يتقنونه جيداً، وبالوراثة.