أيمن شروف
انتبه خلال عودتك إلى البيت. كلمات أربع هزّتني وأشعرتني بحنو أب افتقدته في طفولتي، لأعود واكتشفه مع نصير بيك الأسعد.
كلماته هذه، قالها في أكثر اللحظات حراجة. في العاشر من أيّار، أي بعد ثلاثة أيّام على غزوة بيروت وتهجيرنا من مبنى جريدة
المستقبل، في بهو أحد فنادق سن الفيل الذي لجأنا أو التجأنا إليه.
منذ ذلك الحين، بدأت أفهم نصير الأسعد. قبل ذلك، كان بالنسبة إليّ معلّماً واستاذاً في مهنة، تعشقها حين تلتقي في بدايات انطلاقتك، بأناس من شاكلة البيك، بلطفه، بدماثته، بأخلاقه، بروحه البيضاء، بضحكته، بكل شيء. كل ما في نصير الأسعد يستدعي الإحترام، يُجبرك عليه.
في ذلك الفندق، وفي تلك اللحظة، تحوّل البيك من مدير تحرير في جريدة أنتمي إليها، إلى أبٍ روحي. نظراته ونبرته في ذلك الحين، لا تُشبه رئيساً أو مديراً. هي تُشبه بكل ما فيها من عطف وحُب، نظرة أب لإبنه، يستعجله الرحيل للأمان، يستودعه للقاء قريب، على متابعة مسيرة، كان يصفها بالمعركة الأخيرة في حياته. انتهت مسيرته قبل أن تنتهي المعركة. هنا تتحوّل الأسئلة والهواجس إلى مدعاة شكٍ في كل شيء من حولنا. حتى في المسلّمات. إن لم نقل أكثر.
لم تُقرع الطبول، لم يسمعها نصير الأسعد قبل أن يرحل. كان ليذهب فرحاً بانتصار انتظره طويلاً. بعد 2 آب عام 2009، وانسحاب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار. تغيّر البيك، أصبح كئيباً إلى حدّ لم يعد هو. كنّا نتحاشى الحديث معه، حتى السلام لم يعد كما كان. ليس للمرء سوى أن يسرق نظرة إلى مكتبه ليطمئنّ إلى حضوره. وجوده أمان لي، ولجميع من في الجريدة.
مضت ثلاثة أشهر أو اكثر، والحال على ما هي. تجرّأت على الدخول إليه، مبتسماً، اعتدت في كلّ مرّة، أن يردد على مسامعي كلماته المفعمة بالحب. لم ينطق بشيء، جلست إلى جانبه فإذ به يهدم جدار بناه لأشهر، ليقول: تعودت إخسر، هيدي هزيمتي الستين. قصد بذلك تموضع وليد جنبلاط. قالها ليس من باب الحديث في السياسة. ما كان يجمعه بالبشر أبعد من ذلك بكثير، كان ينطلق إليهم من إنسانيّته. قال ما يؤلمه عن خسارة رفاق ـــ أحبة انتقلوا إلى ضفة بعيدة.
كان في كلّ مرّة أكتب فيها، يقول: لا أعرف، أحب أن أقرأ ما تكتب، أنت وعبد السلام، أقرؤكم وأصحّح لأن ما تكتبوه جيّد، أريده أن يكون دائماً كذلك. بين كل هذه الأوراق المتناثرة فوق مكتبه، وكل الهموم التي تشغل باله، هموم قضية ووطن وعائلة لم تغب يوماً عن تفكيره، بل حضرت في نضاله لأنّه يريد أن يبني وطناً لوائل ونور وريم وتالا، كان يجد وقتاً لي ولكل من شعر نصير الأسعد أنّه إبن القضية، من فلسطين إلى ساحة الشهداء وصولاً إلى ساحات الحرية في كل الوطن العربي، وفي سوريا على وجه التحديد.
كثيرة هي المحطات التي لا يُمكن اختصارها بكلمات ومقال. بعضها لا يُمكن أن يمرّ عليها المرء مرور الكرام. عندما نزل أصحاب القمصان السود إلى الشارع وأُسقطت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري، تداعينا إلى الأمانة العامة لقوى 14 آذار. رفضنا واستنكرنا. كنّا قليلي الحيلة، لا قرار بالمواجهة. ضائعون حتى في ما سنقوله، البيان الذي تُلي آنذاك، كان أقلّ بكثير من أبسط التوقعات. لم يحتمل نصير الأسعد، هول الإنقلاب الذي كان أكبر بكثير. ثار، أخذ الكلام. قال ما لم يتجرأ كثيرون على البوح به. خرج من الأمّانة العامة. خرجنا وراءه. وقف في منتصف الطريق، هاجم النظام الأمني الجديد، رافضاً عودته.
هذه الحادثة، كغيرها. ترك فيها نصير الأسعد لمسته، لوّنها بعشقه الخاص لهذا الوطن، وبإصراره على المواجهة، حين يعجز الجميع عنها. هو مثال الإنسان الذي لا يعرف سوى النضال، لا صديق له إلّا الثورة، لا نديم لعقله سوى التحرر. هو رائع في زمن ارتحل فيه الرجال. هو نصير الحق، في وطن اعتاد الانقلاب على نفسه، على مواطنيه، على أحراره.
لحظة الانقلاب، شعر كما شعرنا، الزمان يفلت منّا إلى مكان حاربناه طويلاً. أتى الربيع العربي، ربيع استشرفه نصير الأسعد قبل ولادته. طرق هذا الربيع أبواب سوريا. عاد نصير الأسعد إلى الحياة. عادت الروح إليه، تفتحت براعم الأمل التي منعها من أن تذبل وتنتهي. لكنّه رحل، قبل أن يسقط طاغية دمشق. وكأنّ لحظات الموت لم تعد تحتمل انتظارات نصر، لنصير وكل نصير للحق.
في كل واحد فينا، ترك نصير الأسعد أثره، ترك سحره، وإرثه، ونضاله. يرحل إلى فوق، ونحن تحت، نمضي وعيوننا إليه، ليحمينا بحكمته، وإيمانه بالوطن والإنسان الذي فينا، إنسان أيقظه نصير الأسعد فينا قبل أن يرحل، قبل أن يذهب إلى قدره وقدرنا. أعطانا الكثير الكثير، أنصفنا جميعاً، وجميعنا لم ننصفه. خفق قلبه لكل الرفاق، ونبضات الرفاق لم تستطع أن تخفق في قلبه.
عزاء نصير الأسعد أننا هنا، نمضي معه حتى في غيابه. نمضي إلى حلمه. حلم سنصحو عليه ولو بعد حين. حلمه بالربيع بدأ في جريدة المستقبل، حيث بيته الكبير، حتى لو لم يعد فيه، قبل رحيله. وعزائي أنني أكتب مرّة جديدة وأخيرة، عن رئيسي ومعلّمي وأبي، في جريدة أحبّها حتى الموت.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق