أيمن شروف ـ المدن
القانون الأرثوذكسي ليس نهاية العالم. هو مجرّد مرحلة تُعبّر عن الواقع السياسي اللبناني، والقول بالواقع السياسي هو ربط في محلّه بالطائفي منه. في لبنان، كل سياسة، أو غالبية السياسات، انعكاس للطائفة، لهواجسها ومتطلباتها، لرؤيتها وارتباطاتها. هذا واقع لا يتغيّر، وإن تغيّرت العناوين في مراحل ما، وتحوّلت عن الطائفة إلى الوطن، فهي لا تلبث بالعودة، إلى الأصل.
مشروع القانون الأرثوذكسي، يشي بحالة مارونية، تتخطى فكرة القانون، لتغوص في عمق الوجود المسيحي. هذا القانون، الخارج عن كل ما له علاقة بفكرة الدولة الجامعة، وهو تعبير فضفاض أساساً، على قيادات المجتمع، المسيحي وغير المسيحي، يمتحن أساساً، قدرة القيادات المسيحية على الجرأة. الجرأة في القرار، والجرأة بالمنطق، والجرأة المنعزلة عن حسابات انتخابية، وحسابات الأقلية الخائفة، تحديداً في هذا المخاض الذي تعيشه المجتمعات العربية، المجاورة منها، قبل البعيدة.
فعل الجرأة، يمتحن، أو بالأحرى امتحن، قيادات مجتمع مُنقسم إلى نصفين. عادة، هذا التنوّع في الشارع المسيحي صحي، كما كان الحال أوائل السبعينيات من القرن الماضي وما قبلها. الاتفاق على القانون المشؤوم، أخرج الانقسام من موقعه الصحي، وحوّله إلى داء، ليس الخروج منه بهذه السهولة، وليس الحديث عن بديل مقبول، بعناوين عدالة التمثيل سوى تفصيل، مُمل يغطي حسابات الميل إلى غلق المجتمع، بذريعة المجتمع.
قرار ميشال عون على سبيل المثال، وبما أنه جزء أساسي في الانقسام، ليس بغريب أو جديد، الرجل حساباته واضحة تماماً. هو من البدايات، بداية التحولات العربية، نحا إلى تكريس خيار تثبيت الإنغلاق، وجاهر بذريعة حماية الأقلّيات، ليُكمل ما بدأه. ساعده في ذلك، بعض ما هو خارج عن المألوف في مسيرة الثورة السورية تحديداً. عدا عن إنغماسه المطلق في الفكر الذي يقول بتأمين قرى حوض العاصي، بما يتخطى فعل الانغلاق، إلى المساهمة في ترسيم حدود الحماية لمجتمعه، ومن يتحالف معه للحماية.
على هذه القاعدة، يُمكن فهم خيار الرجل، وعلى قاعدة التحالفات التي ساقته أحياناً وساقها هو قليلاً، ليس مُستغرباً، أن يرفع نخب قانون الفصل المذهبي، وليس مُستغرباً أن يشعر بنشوة انتصار مذهبية. الغريب، كان في المكان الآخر. في المكان الذي منذ بضعة أشهر، جعل من ذكرى حلّ حزبه، مناسبة ليطلّ على دول الربيع العربي. من تونس إلى مصر مروراً بسوريا. الصدمة هنا مضاعفة. الجمع بين ربيع الشعوب وقوانين الانغلاق، لا يُمكن أن يُفهم، في بلد أصبح الفهم فيه، ضرب من المستحيل.
سمير جعجع، فوق محاكمة نواياه سابقاً، سقط في امتحان الخوف. من قال أن الرجل جريء؟ الماضي، ومن قال أن الثبات على الموقف هو جرأة. السياسة لعبة، الجرأة فيها، آخر المتطلّبات. أن يرفع رأسه ليُقنع من حوله أن الحياة موقف، وأن الرجل مبدأ، شيء من لعبة العاطفة التي تُغرّق بها المجتمعات. في السياسة، هذا لا شيء. الجرأة هنا، هي ستار الخوف الدفين الذي خرج في لحظة نهاية صلاحيّته. والكلام المبدئي في هذه الحال، هو تكريس لبروباغندا الخوف والانغلاق.
الأسئلة التي يطرحها اليوم، من تحالف مع الرجل في مراحل سابقة، وتحديداً بعد خروجه من السجن، واقعية بامتياز. وضعها في غير خانة، أخذ النقاش إلى مكان آخر، بعيد عن العقلانية. لا ذريعة الرأي العام المسيحي مقنعة، ولا حكايات البديل المنتظر عذراً أو تبريراً. الأسئلة هذه، وليدة تجربة معاصرة، واحتكاك مُستمرّ، تقول بشيئين، إمّا عدم قدرة على فهم الرجل، أو فهم العام منه، من دون العناية بالخاص. وفي الحالتين، هناك مفقود، أوجده الأرثوذكسي، لدى الرجل، كما لدى من يسأل.
هو المجتمع اللبناني نفسه الذي يعيد إنتاج تجاربه السوداء، وهو المُجتمع المسيحي نفسه الذي يُفرض عليه استعادة مؤلمة. طرفا الزعامة، جمعتهما الهواجس، وإن اختلفت الأساليب. سقطا كما حال غالبية الزعامات التقليدية، في اللحظات الحساسة والكبرى. خيار العودة إلى الطائفة، والمذهب، هو خيار الانتحار الوطني الذي يجعل من المسيحيين أهل ذمّة، في دائرة أكثرية لا يُحتمل اللعب معها بهذه الطريقة العشوائية. لعبة، لن ترحم من في هذه الأرض، إلى أيِّ نسيج انتموا.
لعلّها خطيئة الجغرافيا، أو القدر. خطيئة يمكن ان تكون عابرة، لو استطاع من في موقع المسؤولية، أن يتخطى عقدة الديموغرافيا، فلا يكون مُجرّد رجل يُمسك الآلة الحاسبة، ليبني على الأعداد سياسة غلق مجتمع بأسره، يُظلم كثيراً، إن اقتنعنا أنّه مع هذا الانتحار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق