أيمن شروف ـ المدن
60 ألف شهيد سوري، إن لم يكن أكثر. البلاد محاصرة بالنار، البشر تحت رحمة الرصاص، السجون مساحات قمع وتعذيب وخطف وموت. كل ما في تلك البلاد، أحكام إعدام ميدانية، لا شيء يعلو فيها فوق حكم قائدها الخالد. بلاد، فيها الموت لعبة بقاء، وفيها كذبة عائلية، تحوّلت إلى كذبة أقليّة، يراد منها تعاون الأعداد على من لا يؤمن بالتعداد.
هي تلك البلاد المدمّرة، التي زارها البطريرك بشارة الراعي. هي تلك المساحة التي لا وجود لـ"الشركة" فيها ولا لـ"المحبة". سوريا، من حيث كان يخطب الراعي، فيها عذابات من لا يراهم مُمثل الكنيسة، ممثل التسامح.
أسئلة كثيرة تطرحها زيارة نيافته إلى دمشق، لا تبدأ بالزمان ولا تنتهي بالمكان. أسئلة كثيرة تحاكي الوجود المسيحي الذي يحارب من أجله البطريرك. أسئلة، تتعدّى زيارة قيل فيها رعوية، لكن تبعاتها السياسية أبعد وأخطر بكثير، وإن سيظهر لبنانياً من يحاول تقزيم الحدث، ومن سيلعب دور البطولة في الدفاع عن الرمز المسيحي الأوّل في المنطقة.
في عزّ الحديث عن الهواجس الأقلويّة، المسيحية على وجه التحديد، يبادر البطريرك، عبر زيارته دمشق، إلى إعادة إحياء تحالف الأقليات الذي بنى عليه النظام السوري أمجاده، والذي أباح من خلاله استباحة القضايا والناس والماضي والحاضر والمستقبل، منذ عقود وإلى اليوم. هكذا، من دون منّة من أحد، يبادر الراعي إلى تقديم هدية مجانية للعائلة السورية الحاكمة وبعثها، هدية، فيها من الألغام ما لا قدرة لا للراعي ولا لغيره، على وأد مفاعيلها.
والحديث، ليس من باب تسجيل النقاط السياسية على كنيسة كانت تاريخياً في خضم اللعبة السياسة، بل من باب الحرص على تنوّع، يبدو أن من يجاهر بحمل شعاره، يركض إلى الهاوية بقدميه، آخذاً معه طائفة بأسرها، أصبح من الآن وصاعداً، حديثها عن الهواجس مشروعاً، لا بل تحوّل مع خطوة ربطهم بمآل عائلة حاكمة في سوريا، إلى عامل خوف، له أن يتحوّل هرباً أو استشراساً، يعيد خنق المناطق وفدرلة النفوس، ورفض كل مختلف، سيرون فيه مغتصباً، وإن لم يكن.
لعلّ رأس الكنيسة لم يحسب تداعيات زيارته، وهنا الكارثة. لعلّه غض النظر عن النظام السوري وهو يحوّل جزءاً من ثورة الشعب للحرية، إلى مساحة للأحقاد يساهم في تأجيجها ذلك القتل الذي لا يعرف رادعاً، فأبى سيّد الصرح والمؤتمن على الوجود، إلّا أن يكون مشرّعاً من حيث يدري أو لا يدري، لمزيد من عزلة جماعية، تفرض في سوريا، ويُراد لها أن تكون في لبنان. وهنا في لبنان، الأرض خصبة، ومن ينتظر للانقضاض على عيش مشترك، كُثر. وألم يستمع نيافته إلى خطابات الشد العنصري والطائفي الخارجة من غير مكان، ألم يلمس مآرب من يلتمسون قيام مارد الطائفة، وما أكثرهم في كل طائفة؟
قد يعود البطريرك الراعي من سوريا، ليروي الكثير ويفسّر أكثر. قد يعود من بلاد الموت ليتحدث عن أهمية الديموقراطية، ورفضه إراقة الدماء، وسيسترسل على عادته في الإمعان بالشرح، الذي غالباً ما أوقعه بشرّ ما اقترفه، وبدل أن يخرج من الخطأ، يزيد منه، ولا من يدري.
لكنّه، وإن نجح ولو لمرّة في تبرير موقفه، قد لا ينجح في رفض وإنكار استغلال النظام السوري لزيارته، وهل سمع هو ما قاله فيصل المقداد عن زيارته إلى دمشق؟.
هنا، قد يكون الحديث أوضح والموقف أكثر إيلاماً، وهنا، ومع ممثل بشار الأسد الجالس بجانب البطريرك، قد يكون من الصعب، إنكار ما نقلته عدسات الكاميرا، من تصفيق خرج عن رجل "الشركة والمحبة"، حين ذُكر اسم قائد حلف الأقليات الخالد.
غداً، حين يعود البطريرك، سقف الحديث، لن ينزل قيد أنملة، عن سقف "القانون الأرثوذكسي"، وشعار: إنعزلوا إنّهم يتربصون لنا. حينها، قد لا يكون من المفيد استذكار مآثر البطريرك نصر الله صفير. ذاك الزمن، ولّى، بإرادة ممثّل الكنيسة نفسها. مُمثل لابد من أن يُذكَّر: نيافتك، كفّ عن اللعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق